كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



نزلت هذه الآية في قوم من المؤمنين كانوا يوالون رجالا من اليهود، فقال لهم رفاعة بن المنذر وابن جبير وسعد بن خيثمة: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم، فأبوا النصيحة.
وقيل نزلت في عبادة بن الصامت البدري النقيب، فقد كان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب قال له عبادة: يا نبي الله إن معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فاستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ}.
لا ناهية، فالفعل مجزوم، أو نافية فالفعل مرفوع، وتكون الجملة خبرية في معنى النهي.
أَوْلِياءَ جمع ولي، وهو الناصر والمعين، فلا يركن المؤمنون إلى الكفار، ويستعينوا بهم لقرابة أو محبة مع اعتقاده بطلان دينهم، فإنّ ذلك منهيّ عنه، لأنّ الموالاة قد تجرّ إلى استحسان طريقتهم.
وفي هذا المعنى نزلت آيات كثيرة {لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ} [المائدة: 51] {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ} [الممتحنة: 1] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].
وأما الموالاة بمعنى المعاشرة الجميلة في الدنيا بحسب الظاهر، مع عدم الرضا عن حالهم فذلك غير منهيّ عنه، والموالاة لهم بمعنى الرضا بكفرهم ومصاحبتهم لذلك كفر، لأنّ الرضا بالكفر كفر، فلا يبقى المرء مؤمنا، مع كونه بهذه الصفة.
{مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} حال من الفاعل، أي متجاوزين المؤمنين إلى الكفار استقلالا أو اشتراكا. فالظرف لا مفهوم له، لأنّه لبيان الواقع، فقد ورد في قوم مخصوصين حصلت منهم الموالاة للكفار دون المؤمنين، وقيل: الظرف في حيّز الصفة لأولياء.
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاتخاذ، وإنما عبّر بالفعل للاختصار، أو لإبهام الاستهجان بذكره، وجواب الشرط {فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} وفي الكلام حذف مضاف، أي فَلَيْسَ مِنَ ولاية الله فِي شَيْءٍ أو من دين الله، وتنوين شَيْءٍ للتحقير، وذلك لأنّ موالاة المتضادين لا تكاد توجد.
قال الشاعر:
تودّ عدوّي ثمّ تزعم أنّني ** صديقك ليس النّوك عنك بعازب

{إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا} استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال، والعامل فيه لا يَتَّخِذِ فلا تتخذوهم أولياء في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم.
وقيل: استثناء مفرّغ من المفعول لأجله، فالمعنى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء لشيء من الأشياء إلا للتقية {مِنْهُمْ} من جهتهم، تُقاةً مفعول به، أي شيئا يتّقى منه، فالجار والمجرور حال من تقاة، حيث تقدّم عليها، والمعنى:
إلا أن تتقوا شيئا يتّقى منه حاصلا من جهتهم، كالقتل وسلب المال مثلا أو تُقاةً بمعنى اتقاء، فتكون مفعولا مطلقا، وتُقاةً متعلقة به في مكان المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف للعلم به، وعدّي بمن، لأنه بمعنى خاف، فالمعنى إلا أن تخافوا منهم ضررا خوفا.
{وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} إي عقاب نفسه، وفي ذلك تهديد عظيم مشعر بتناهي الاتخاذ في القبح، حيث ربط التحذير بنفسه، لأنه لو حذف وقيل: ويحذركم الله، فإنه لا يفيد صدور العقاب من الله، بل يحتمل أن يكون منه تعالى، وأن يكون من غيره. فلمّا قال: نَفْسَهُ علم أنه صادر منه تعالى، وذلك أعظم أنواع العقاب لكونه تعالى قادرا على ما لا نهاية له، ولا قدرة لأحد على رفعه أو منعه مما أراد.
{وَإِلَى الله الْمَصِيرُ} المرجع، والإظهار لتربية الروعة والمهابة في النفوس، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها.
وفي الآية دليل على أنه لا يجوز الاستعانة بالكفار في الغزو، وإليه ذهب بعض المالكية، وقالت الحنفية والشافعية بالجواز، وأنه يسهم لهم في الغنيمة، لكن بشرط أن تكون الاستعانة على قتال المشركين لا البغاة، وما ورد عن عائشة رضي الله عنها من رد النبي صلّى الله عليه وسلّم لرجل مشرك كان ذا جرأة ونجدة أراد أن يحارب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر وقال له: «ارجع فلن أستعين بمشرك» فمنسوخ، بدليل استعانته صلّى الله عليه وسلّم بيهود قينقاع وقسمه لهم، واستعانته بصفوان بن أمية في هوازن.
وذكر بعضهم أنّ جواز الاستعانة مشروط بالحاجة والوثوق، أما بغيرهما فلا يجوز، وهو الراجح. وعلى ذلك يحمل خبر السيدة عائشة، وما كان من السبب الثاني للنزول، ويحصل به أيضا الجمع بين أدلة المنع وأدلة الجواز.
ومن الناس من استدلّ بالآية على أنه لا يجوز جعلهم عمّالا ولا خدما، ولا يجوز التعظيم والتوقير لهم في المجالس، والقيام عند قدومهم، فإنّ دلالته على التعظيم واضحة قوية.
وفي الآية أيضا دليل على مشروعية التقيّة، وعرّفوها: بالمحافظة على النفس أو العرض أو المال من شرّ الأعداء.
ولما كان العدوّ نوعين: عدوا كان الاختلاف في الدين سببا لعدوانه، والثاني ما ثبتت عداوته على الأغراض الدنيوية كالمال والمتاع والإمارة، كانت التقية قسمين:
أما القسم الأول: فكل مؤمن وجد في مكأن لا يقدر فيه على إظهار دينه، فهذا تجب عليه الهجرة من ذلك المكان إلى مكان يستطيع إظهار دينه، بشرط ألا يكون من الصبيان أو النساء أو العجزة، فهؤلاء قد رخّص الله تعالى لهم فقال: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدأن لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98)} [النساء: 97، 98].
فإن كان من المستضعفين: وكان التخويف بالقتل ونحوه ممن يظنّ منهم أنهم يفعلون ما خوّفوا به، جاز المكث والموافقة ظاهرا بقدر الضرورة، مع السعي في حيلة للخروج والفرار بدينه.
والموافقة حينئذ رخصة، وإظهار ما في قلبه عزيمة، فلو مات فهو شهيد قطعا، بدليل ما يروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لأحدهما: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، ثم قال له: أتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم. فتركه. ثم دعا الثاني وقال: أتشهد أنّ محمدا رسول الله؟
قال: نعم، فقال له أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصمّ، قالها ثلاثا، فضرب عنقه، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أمّا هذا المقتول فقد مضى على صدقه ويقينه، وأخذ بفضيلة فهنيئا له، وأمّا الآخر، فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه».
والقسم الثاني: من كانت عداوته بسبب المال والإمارة، وقد اختلف العلماء في وجوب هجرة صاحبه، فقال بعضهم: تجب، لقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] وبدليل النهي عن إضاعة المال. وبدليل قوله صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد».
وقال آخرون: لا تجب، لأنّها لمصلحة دنيوية، ولا يعود من تركها نقصان في الدين، ولكنّ المنصف يرى أن الهجرة قد تجب هنا أيضا إذا خاف هلاك نفسه أو أقاربه، أو هتك عرضه بالإفراط.
قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)}.
كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، مع إثبات التوحيد، ومحاجّة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض ما استحدثوا في دينهم.
وفي هذه الآيات وما قبلها يدفع الله شبهتين من شبههم.
قالوا: إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده فكيف تستحل ما كان محرّما عليه وعليهم كلحم الإبل؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فما يكون لك أن تدّعي أنك مصدّق لهم، وموافق في الدين، ولا أن تقول أنك أولى الناس بإبراهيم.
فرد الله هذه الشبهة بقوله: {كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسرائيل} [آل عمران: 93] وأنه لم يحرّم عليهم شيئا إلا ما كان عقوبة لهم، كما جاء في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160].
وأما الشبهة الثانية: فهي أنهم قالوا: إن الله وعد إبراهيم أن تكون البركة في نسل ولد إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظّمون بيت المقدس، ويصلّون إليه، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ما عظّموا، ولما تحوّلت عن بيت المقدس، وعظّمت مكانا آخر اتخذته مصلّى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
فردّ عليهم بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)} وتقريره أنّ البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت للناس يعظّمونه، ويتعبدون الله فيه، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام لأجل العبادة خاصّة، وقد قال إبراهيم: {رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37].
ثم بنى سليمان بن داود عليهما السلام بيت المقدس بعد ذلك بعدة قرون.
فماذا فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم غير أن امتثل أمر ربّه، فرجع إلى قبلة أبيه إبراهيم، واتخذها مصلّى. وأوّلية البيت قيل: أولية شرف، وقيل: أولية زمان، ولا مانع من أن يكون كل منهما مرادا، فقد مرّ أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنيا البيت المحرّم للعبادة، ثم جاء سليمان وبنى بيت المقدس، فالأولية زمانية، وهي تستلزم أولية الشرف.
وقد ذهب بعض المفسرين إلى أنه أول بيت وضع على الأرض بالنسبة للبيوت مطلقا، فقالوا: إن الملائكة بنته قبل خلق آدم، وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين سنة.
روى البخاري ومسلم من حديث أبي ذر قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول بيت وضع للناس؟ فقال: «المسجد الحرام، ثم بيت المقدس» فقيل: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة».
وقد يقال: إنّ هناك تعارضا بين ما ذكرنا من أنّ بناء الكعبة كان قبل بناء بيت المقدس بعدة قرون، وأن الذي بناه إبراهيم، وبين ما روي من أن الذي وضعها الملائكة قبل بيت المقدس بأربعين سنة، وقد أجيب بأنّ الوضع غير البناء، وبأنه لعل الذي كان من إبراهيم وسليمان كان إعادة، ومعلوم أن بين إبراهيم وسليمان عدة قرون فلا منافاة.
{لَلَّذِي بِبَكَّةَ} بكة اسم لمكة كما روي عن مجاهد، وإبدال الميم باء كثير في كلامهم، وقيل: هو بطن مكة حيث الحرم.
{مُبارَكًا وَهُدىً لِلْعالَمِينَ} بيان لحاله الحسية الحسنة، والمعنوية الشريفة، وأما الأولى فهي ما ساق الله إليه من بركات الأرض، ومن ثمار كل شيء، ومن جميع الأقطار، مع كونه بواد غير ذي زرع، وأما الثانية فهي جعل أفئدة الناس تهوي إليه، وتتعلّق به، ويأتون للحج والعمرة رجالا، وعلى كل ضامر من كل فج، وتولية وجوههم شطره في الصلاة، وأيّ ساعة تمرّ ليلا أو نهارا وليس فيها من يتجه إلى ذلك البيت يصلي!! فقد أجيبت دعوة إبراهيم على أتمّ وجه {رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ}.
وقد أشير إلى هاتين الحالتين في قوله تعالى حكاية عن المشركين: {وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)} [القصص: 57].
{فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ} فيه: أي البيت دلائل وعلامات ظاهرة لا تخفى على أحد: منها مقام إبراهيم أي موضع قيامه للصلاة والعبادة، فأيّ دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربّهم؟ وإبراهيم هو أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم.
{وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} آية ثانية على أنّ البيت الحرام حقيق بالتعظيم، فقد اتفقت قبائل العرب طرّا على احترام هذا البيت وتعظيمه بنسبته إلى الله، وقد اشتدّت مبالغة العرب في ذلك، حتى إن من كان قاتلا، واستباح حرماتهم، ولجأ إلى البيت فإنه يصير آمنا ما دام فيه.
مضى على هذا عمل الجاهلية مع ما بين أهلها من اختلاف المنازع، وتباين الأهواء والمشارب، وتعدّد المعبودات، وكثرة الأضغان والأحقاد، وقد أقرّ الإسلام هذه الميزة للبيت الحرام، وأما ما كان من المسلمين يوم فتح مكة فكان لضرورة تطهيره من الشرك، ولأجل أن يعبد الله وحده، ومع ذلك فقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم إنها حلّت له ساعة من النهار، ولم تحل لأحد قبله، ولن تحل لأحد بعده.
على أنّ فتح مكة لم يؤثّر على أمر الحرم شيئا، لأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر مناديه أن ينادي: «من دخل داره، وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن».
هذا وقد اتفق الفقهاء على أنّ من جنى في الحرم فهو مأخوذ بجنايته، سواء أكانت في النفس أم فيما دونها.
واختلفوا فيمن جنى في غير الحرم، ثم لاذ إليه فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن زياد إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يقتصّ منه ما دام فيه، ولكنه لا يجالس، ولا يعامل، ولا يؤاكل إلى أن يخرج منه، فيقتصّ منه، وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم، ثم دخل الحرم اقتصّ منه.
وقال مالك والشافعي: يقتصّ منه في الحرم لذلك كله، وقد روي عن ابن عباس، وابن عمر، وعبيد الله بن عمير، وسعيد بن جبير، وطاووس، والشعبي، فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل.
قال ابن عباس: ولكنه لا يجالس، ولا يؤوى، ولا يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقتل، وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه الحدّ.
وروى قتادة عن الحسن أنه قال: لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه، قال: وكان الحسن يقول: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا كان هذا في الجاهلية، لو أنّ رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرّض له حتى يخرج من الحرم. أما الإسلام فلم يزده إلا شدة، من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد.
وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا: إذا أصاب حدا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم أخرج عن الحرم، حتى يقام عليه، وروي مثل هذا عن مجاهد، وهذا يحتمل أن يراد به أن يقاطع، فلا يجالس، ولا يعامل، حتى يضطر إلى الخروج، فيقام عليه الحد.
وفيما عدا رواية الحسن فالاتفاق حاصل بين السلف من الصحابة والتابعين أن من دخله لاجئا إليه، وكان قد جنى في غيره أنه يقاطع حتّى يخرج فيقتص منه.
ومثل قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وقوله: {أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا} [القصص: 57] وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125].
قال أبو بكر الرازي: ولما عبّر الله تارة بالحرم وتارة بالبيت علم أنّ حكم الحرم حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه.